بين جوانح كل مؤمن قلبٌ غيور ونفس أبية، وفي صدر كل مسلم حماسة إيمانية وحمية إسلامية، وما من شك أن مآسي المسلمين تدمي القلوب ألمًا، وتعتصر النفوس أسى، وتمور المشاعر وتجيش العواطف ويتقد الحماس، وهنا إما أن تُطلَق هذه العواطف لتُحدث العواصف والقواصف، لا تلوي على شيء ولا تفكر في عاقبة ولا ترعوي عن حرمة، وإما أن تبالغ في تصور العوائق، وتضخيم العواقب، فترتد عاجزة محبطة، قد امتلأت يأسًا يئد حيويتها، ويضعف قدرتها، ويصرفها عن الانشغال بأحوال الأمة والإسهام في نصرتها.
* طبيعة تنضبط بأمرين
إنه لا بد من الإقرار بأن العواطف طبيعة وفطرة بشرية، وأنها في الوقت نفسه عامل مؤثر في واقع الحياة الإنسانية سلبًا وإيجابًا، ولكن المسلم لا يقرر إيقاع أفعاله أو الحكم بصوابها وخطئها من منطلق العاطفة، ولا بمقياس ردود الأفعال، بل هو ملتزم بضوابط الشرع وأحكام الدين، وكل أقواله وأفعاله ينبغي أن تنضبط بأمرين أساسيين:
أولهما: الحكم الشرعي المستفاد من النصوص والمقاصد والقواعد الشرعية.
وثانيهما: مراعاة المصالح والمفاسد عند تنـزيل الأحكام الشرعية على الأحوال والحوادث الآنية والواقعية، وكلا الأمرين لا يلغي العاطفة، بل يضبطها، ولا يمنعها، بل يوجهها.
* ولكنكم تستعجلون!
هناك من يطلقون العنان لعواطفهم، ويسلمون القياد لحماستهم، فيندفعون بلا روية، ويواجهون بلا حكمة، ويغيرون بلا تدرج، وينكرون بلا تفقه، إلى هؤلاء أقول: تذكروا قول الحق تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ ألا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} وأسوق لهم حديث خباب رضي الله عنه يوم أن اشتد عليه العذاب، فشكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الشفيق الرحيم، فذكّره بمن كان أشد منه تعذيبًا، ثم قال: "والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وأُذكِّرهم بما أُمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية رغم شدة الأذى وضغط الاستفزاز: {واصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}.
وينبغي عدم الإسراع والاندفاع بدون الحكمة والانضباط، فربما يكون ذلك استفزازًا من الأعداء، واستدراجًا من المتربصين: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون}.
وفي يوم بيعة العقبة الثانية قال العباس بن عبادة بن نضلة: "والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدًا بأسيافنا" فقال -عليه الصلاة والسلام: "لم نؤمر بذلك"، وهنا يرد ذكر قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
ولعل مما يرد في المقام موقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم صلح الحديبية، حيث تحركت غيرته، وهاجت حميته، وزادت حماسته، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: أنا عبد الله ورسول الله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني. قال عمر: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ مخافة من كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرًا.
وهذه هي الطريق.. حماسة وحمية، لكن تضبطها مرجعية منهجية.
* فلنتجاوز الشكليات
وربما يكون هناك ما يستفز ويزعج من تسلط الأعداء أو تفلت الأولياء، ولا بد من تأثر لذلك وتغير، ولا بد من صد ومنع، ولا بد من عمل وإصلاح، وذلك مطلب فيه تصديق للإيمان، وإظهار لآثاره، ولكن مراعاة المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات والمقاصد، وقبل ذلك التزام التشريعات والأحكام يضبط العاطفة ولا يمنعها، ويحقق الفائدة ولا يضيعها، وكثيرًا ما تكون العاطفة دافعة إلى مراعاة الأمور الصغيرة والوقوف عندها على حساب ما هو أكبر منها.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمر الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو (ممثل قريش) وقال: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، قال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، وفي كل مرة كان المسلمون والكاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يرفضون، ويرون ذلك مجحفًا لهم ومنقصًا لمكانتهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِل تجاوز هذه الأمور والشكليات العارضة، لنظره إلى ما هو أعلى وأسمى.
* العظيم الآجل.. لا القليل العاجل
وأحيانًا تدفع العاطفة لقطف الثمرة القليلة العاجلة، ولا يكون لديها القدرة على الأناة والصبر للعمل والدأب من أجل الثمرة العظيمة الآجلة، ولكن ثمَّ ضبط لما كان ذلك، فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يوم الأحزاب يدخل معسكر المشركين بتكليف محدد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو استجلاء ومعرفة الأخبار، ومع تحذير من إحداث أي فعل، وهاهو حذيفة يخبرنا فيقول: "لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أحدث شيئًا، لو شئت أن أقتل أبا سفيان لقتلته بسهم"، نعم لقد كان أمام عينه وفي متناول يده، وهو -يومئذ- رأس الكفر، وقائد الجيش، ولكنها الضوابط التي تُلتزم، والمصالح التي تُرتجى، توجهه وترشده، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في عمرة القضاء في العام السابع، وحول الكعبة 360 صنمًا، ما عابها ولا شتمها ولا بصق عليها، وهو – قطعًا- منكر لها، وراغب في هدمها وإزالتها، ولكن الأوان لم يحن بعد، وفي فتح مكة -بعد عام واحد فقط- أسقطها واحدًا واحدًا، وهو يتلو: {وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
وأخيرًا أقول: إن الذي لا عاطفة عنده، ولا غيرة لديه، ولا حمية بين جنبيه، عنده في إيمانه نقص وضعف، ولا تُرجَى منه حركة ولا عمل، وندعوه لأن يراجع نفسه، ويعالج ضعفه.
وذو العاطفة الجياشة نشكره، وندعوه إلى ترشيدها في ضوء الشرع، وضبطها بمراعاة المصلحة.
ومسك الختام هذه الكلمات المشرقة للداعية الفذ الأستاذ البنا رحمه الله: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف".